عرفته في غزة منذ أن كان شابا يافعا ، كان قصير القامة لا يزيد ارتفاع قامته عن المتر ، كان ضحوك الوجه ، طيب القلب ، صارع الفقر والحرمان ، وأمضى حياته عاملا مُستأجَرا عند الأثرياء .
عكف على أبنائه حانيا كشجرة النخيل تحضن ثمارها ، تحضنهم حضن الذات للذات .
كان من بين أبنائه من أسعده حظه في مِنحة جامعية من جمهورية مصر العربية ؛ ليتخرج بعد سنوات من جامعاتها طبيبا أخصّائيا في مجال طب الأطفال .
ذاع صيته في كل مكان ، وأثبت جدارته في الميدان ، وأصبح مالك لثروة كبيرة مكنته من شراء قطعة أرض وسط أرقى أحياء غزة ، ثم بنى عليها بيتا فاخرا يصلح لسكن الملوك والأمراء ، وجهزه بأحدث وأرقى الأثاث المنزلي والذي اشتراه خصّيصا من أوروبا ، ولم يبخل على قصره بشيء حتى البلاط ذهب إلى أوروبا ليحضره بنفسه ، وتزوج من ابنة أحد الأثرياء المرموقين في المدينة من أصحاب المنصب والجاه والمال ، والأب الفقير يستأجر بيتا متواضعا سقفه من الصفيح ( صاج الزينقو ) وجدرانه من اللبن ، ولا يزال أبوه يعمل أجيرا خادما عند الناس ..... !!!
شعر الأب بالحرمان الذي ما بعده حرمان ، وشكا أمره بصمت إلى ربه ، وعشش الألم على أنياط قلبه ، وهو الذي ربّى فلذة كبده وأنفق عليه حتى صار شابا يافعا ؛ و أصبح طبيبا مشهورا ؛ لعله يأكل من ثماره ، ويجني من حصاده ، ويتظلل بظلاله .
قابلته مرة في ميدان فلسطين في غزة وسألته : كيف حال ابنك الطبيب فلان ؟ .
أجابني والقهر يرسم معالمه على صفحات وجهه : الله يرضى عليه ، وقد أشار بيده اليمنى إشارة اليأس ، ودلالات وجهه تدل على العجز والمرارة .
كان يبدو في السبعين من عمره ، ضعفت قواه كما ضعف منه السمع والبصر ، وهو لا يزال يذهب إلى عمله ويعود في كل يوم متثاقلا ، وكأنه يجر من خلفه أثقال الأهوال الجسام ، وهموم السنين العجاف ، ولا يزال يعمل أجيرا ينتزع لقيماته من بين مخالب زمانه .
لم تنفع الطبيب شهرته كما لم تنفعه ثروته الطائلة ، ولا كل ما ملك ، فقد وقع عليه غضب من الله ومن والديه .
كانت النتيجة أن حرمه الله من الذريه ، فمنعه من الإنجاب ليحرمه ربه من سعادة وحلاوة احتضان طفل من أطفاله .....
وفجأة يتوقف قلبه عن العمل ولم يبلغ الخمسين من عمره ؛ ليلقى سوء عمله عند ربه .
عادت زوجته إلى بيت أهلها ، وعاد بيته الفاخر إلى والده الفقير بحكم الميراث الشرعي ( ولله ميراث السماوات والأرض ) فاعتبروا يا أولي الألباب .
كان دائما حزينا يشعر بالإرهاق الجسدي والتعب النفسي ، قالت له زوجنه : أنت في حاجة إلى أن تخرج الليلة ، وتتناول طعام العشاء مع امرأة في أحد المطاعم الفاخرة في المدينة .
نظر إليها مندهشاً وقال : أخرج مع امرأة لتناول طعام العشاء !! ؟ ماذا تقولين ؟ .
قالت له زوجته نعم . أخرج مع أمك ، اذهب إليها وتناول طعام العشاء في صحبتها لعل الله يفرّج عنك ما أنت فيه من هم وغم .
ذهب إلى والدته مسرعا وطلب منها أن تستعد للخروج معه لتناول طعام العشاء في المطعم .
فرحت أمه فرحا شديدا بهذه الدعوة الموجهة إليها من فلذة كبدها ، وأخذت الأم والفرح يغمر قلبها تعلن الخبر السعيد للجيران والأهل والأصدقاء ، بأن ابنها يدعوها إلى تناول طعام العشاء في أفخر مطاعم المدينة .
تناولت الأم مع ابنها الطعام ، وعاد كل منهما إلى بيته .
بعد ثلاثة أيام انتقلت أمه إلى رحمة الله ، وبعد أسبوع تلقى الابن دعوة من صاحب المطعم ذاته ليتناول طعام العشاء ، وبعد أن تناول الطعام قدم إليه صاحب المطعم ورقة مكتوب عليها :
ولدي الغالي وفلذة كبدي : لقد خشيت أن ألقى الله قبل أن أسدك الجميل الذي صنعته معي ، لعلى يا ولدي الحبيب أن أكرمك كما أكرمتني ، أسأل الله لك الرضى والسعادة والخير كله ، وأن يطعمك من أيدي أبنائك كما أطعمتني ، وأن يدخل الفرحة في قلبك كما أدخلتها في قلبي .... حساب عشاء اليوم مدفوعا يا ولدي .
أمد الله في عمر الرجل ورزقه ذرية صالحة ببركة رضى الوالدين ، وكان هدف كل واحد من أبنائه أن يسمع منه كلمة الرضى ، وأن يُدخل على قلبه الفرحة ، وأن يرسم على وجه أبيه السعادة ، ووسع الله عليه في رزقه ، وكان محبوبا بين الناس ، موفقا فيما يريد ، نسأل الله رضى الوالدين والجنة ، والفوز برضى الرحمن في الدارين .