بعض القصائد تظل متلألئة في الذاكرة كما يتلالأ نجم في السماء.
<p>وتظل تتردد على سمع الأجيال فيسمعها الأبن عن الأب والحفيد عن الجد.. وحين يسمعها مرة أخرى بعد سنين يحس أنها جزء منه مألوفة لديه وتثير فيه الحب والحنين لآبائه وأجداده..
<p>وكما يذكرنا المكان العزيز الذي لم نره من سنين.. كما يذكرنا حين نراه بما فيه من ذكريات أصيلة وماض جميل، لطول ما رأته العين وما مرح فيه القلب وفرح.
<p>كذلك تذكرنا القصيدة الجميلة التي كنا نسمع الآباء والأجداد يرددونها على مسامعنا ونحن أطفال.. تذكرنا حين نسمعها بعد سنوات طويلة بذكريات عزيزة وحنين غريب للماضي الجميل وحب عميق للآباء والأجداد الذين نذكرهم حينما نسمعها وكأننا نراهم ونكاد نسمع نبرات أصواتهم الأليفة وهي تردد القصيدة.
<p>الزمان يختلط بالمكان في الشعور..
<p>والخيال يمتزج بالواقع في الوجدان..
<p>والماضي الذي لا يعود.. يعود نابضاً بالحياة والحب والشعر والشعور..
<p>ومن القصائد التي تعيد لي.. ولغيري من أبناء جيلي.. الماضي غضاً ندياً.. وتثير أعطر الذكريات.. وتجعلنا نكاد نمثل أطفالاِ مبهورين أمام آبائنا وأجدادنا الراحلين.. نرى في وجوههم شهامة الرجال.. ونسمع في أصواتهم عراقة الامتداد.. ونشم من أردانهم رائحة دهن العود.. ونحس بجانبهم بالحب والاحترام والأمان..
<p>من تلك القصائد هذه القصيدة المشهورة التي اختلف الرواة في قائلها:
<p>واهني الترف منسوع الجديلة
<p>ماضواه الليل دون مغرزات
<p>رودوهن "هيت" واخطاه الدليلة
<p>والموارد غير هيت مقضبات
<p>روحن مثل القطا صوب الثميلة
<p>ضمر تضفي عليهن العبات
<p>قاعد في البيت يبكي عزتي له
<p>يوم شاف ركاب خله مقفيات
<p>@@@@
<p>آه من قلب على جال المليلة
<p>لا تذكرت العصور الماضيات
<p>عصر من ينطح مقاديم الدبيله
<p>لا بتي لا جا نهار الموجبات
<p>من تعبث بالفرايض عزتي له
<p>تقعده حدب السيوف المرهفات
<p>@@@@
<p>يذكر عشيري ورى البره
<p>وأنا تعديت الارماح
<p>يابنت يازينة الطره
<p>يا اللي ثناياك وضاح
<p><p>المصدر: كتاب "ديوان السامري والهجيني"
<p>للأستاذ محمد بن عبدالله الحمدان، ص180وبعضها ورد في كتاب المجازبين اليمامة والحجاز للشيخ عبدالله بن خميس ص 35الطبعة الرابعة - مطابع الفرر زدق.
<p>@@@@
<p>وقول الشاعر:
<p>"واهني الترف.."
<p>أي ما أسعده وأنعمه بحياته فهو مدلل في بيته لم يضو عليه الليل ضائعاً دون المغرزات..
<p>(والمغرزات هي الآن حي راق في وسط الرياض تقريباً فما أسرع الزمان في الزحف على المكان)..
<p>و (الترف) هو المترف الناعم الذي لم يتعب في حياته وإنما حياته نعيم وترف وضحك ومرح، وهي كناية عن المرأة الناعمة الجميلة، يقول العرب عن مثلها "نؤوم الضحى" لأنها مترفة لا تنهض باكراً لتعمل فهي مكفية مراحة وهذا يجعل بشرتها أجمل لبعدها عن الشمس وشكلها أنضر لنعومة حياتها..
<p>(واهني) أي ما أجمل هناءة المحبوبة الآمنة في منزلها بعيداً عن الضياع في ليالي الصحراء حيث يتيه الدليل ويعز الماء.. وتركيب: (وا..) فيه حنين وحنان.. فهو يذكرها لأنه يحبها ويشتاق إليها ويريد في الواقع أن تزداد نعيماً بهناءتها فهذا يسعده رغم أنه الآن في موقف صحراوي صعب تاه فيه الدليل وشح مورد الماء وضوى عليه الليل (ليل ودليله الله)..
<p>و (هيت) هو المكان المعروف بين الرياض والخرج (جنوب الرياض) وكان مورد ماء.. وكان الشاعر مع صحبه يقصدون هذا المورد ولكن (الدليله) اخطاه وذهب شمال الرياض (المغرزات الآن) والمشكلة أن موارد الماء غير هيت الذي أضاعوه كلها محجوزة!
<p>ثم يصف جمال النساء وقد ذهبن مع (الترف) ونظر لهن مبعدات:
<p>"روجن مثل القطا صوب الثميله
<p>ضمر تضفي عليهن العبات"
<p>@@@@
<p>وتعبير (منسوع الجديله) في قوله ( وا هني الترف منسوع الجديله) تعبير موّاج ومنساق مع صورة المترفة فشعرها متناثر بخفة وجمال يداعب النسيم والنسيم يداعبه.. ويلعب بالقلوب.
<p>@@@@
<p>وبهذه المناسبة نذكر بعض ما ورد في شعرنا العربي من تذكر الحبيب.. ومن ترفه ونعومته:
<p>يقول قيس :
<p>كأن فؤادي في مخالب طائر
<p>إذا ذكرت ليلي يشد به قبضا
<p>ويقول ذو الرمة:
<p>وإني لتعروني لذكراك هزة
<p>كما انتفض العصفور بلله القطر
<p>وفي الجيب المنعم يقول المرار بن منقذ:
<p>ناعمتها أم صدق برة
<p>وأب بر بها غير حكر
<p>فهي خذواء بعيش ناعم
<p>برد العيش عليها وقصر
<p>تطأ الخز ولا تكرمه
<p>وتطيل الذيل منه وتجر
<p>وهي لو يعصر من أردانها
<p>عبق المسك لكادت تنعصر!
<p>والخذواء هي المترفة..
<p>ويقول العباس بن الأحنف:
<p>صادت فؤادي مكسال منعمة
<p>كالبدر حين بدا.. بيضاء معطار
<p>ويقول عمر بن أبي ربيعة:
<p>ومد عليها السجف يوم لقيتها
<p>على عجل تباعها والخوادم
<p>فلم استطعها غير أن قد بدالنا
<p>عشية راحت كفها والمعاصم
<p>معاصم لم تضرب على البهم في الضحى
عصاها ووجه لم تلحه السمائم